دوّن للأرض

طائِرُ شُحْرُورِ
طائِرُ شُحْرُورِ

مختارات من مذكرة طائِرُ شُحْرُورِ 

 اليومِ الأول 

مرحبا ، أنا طائرٌ ، شحرورْ هو اسمي، نتشارك أنا وعائلتي الإسم نفسهُ ، والسماءُ ذاتها ، والمدينةُ المفضلةُ أيضاً . 

اقترحَ علي جدي الأكبر كتابةِ مذكراتي ، فقدْ نغادر قريباً المدينةِ ، أعجبني اقتراحهُ لذَلكَ سآخذكمْ برحلةٍ قصيرةٍ في يومي.

 يبدأُ يومي معَ صعودِ الشمسِ ، أحلقُ عالياً ، على ارتفاعِ ما يقاربُ العشرةَ أمتارٍ عنْ الأرضِ ، أحبَ الوجودُ في المناطقِ السكنيةِ قليلة الإكتظاظِ ، أحبَ البشرُ لكنهمِ يخيفونني .

 أحلقْ حتى أرى شجرةً عاليةً ، والتي منْ النوادرِ إجادها ، وأتفيأُ في ظلها ، وإنْ لمْ توجدْ أستريح على شُرفاتِ المنازلِ ، وأتفيأُ في شبابيكها البرتقالية المغبرة، حتى يحينَ موعدُ الغداءِ ، أحلقُ مجدداً بحثاً عنْ زهرة ، أوْ أيِ حشرةٍ منْ الممكنِ أنْ توجدَ في مجالٍ بحثيٍ عنْ طعامٍ ، ولكنيَ أفضلُ الأزهارِ ، رحيقها، يمدني بالطاقة طوال النهار. الماءُ هوَ دائما أصعب ما يمكنُ إيجاده، فغالباً ما ينتهي يومي مكتفياً بالرحيق فقطْ . 

وعندَ المساءِ ، نعود إلى منزلنا الجديد المؤقت، المهجور، في الابنية الداكنة العالية، فالمنازلُ المهجورةُ هيَ مأوانا الوحيدَ، ندخلُ خجلينِ منْ أنفسنا، نستبدلُ أغصانُ أعشاشنا ببكراتِ صوفٍ منْ علبةِ الحلوى المغلقةِ، ونحيك منْ ذكرياتِ الأريكةِ مخدةً لأطفالنا الصغارَ، وعندما يحينُ وقتَ النومِ، نجتمعُ على مخدةٍ واحدةٍ

 ويروي لنا جديّ، قصة ما قبلَ النومِ، دائماً ما تكون عن طيورٍ سعيدةٍ  تعيش في الغاباتِ، تكون فيها بيوتهم أعشاش، و يشربون من مياهِ الأنهارِ، ويأكلون التوت البري.أحب حكاياتِ جدي الخياليةِ ، تجعلني أشعرُ بأني قادرٌ على فعلِ ذلكَ يوماً ما، أوْ أتمنى على الأقلِ.

اليومُ الرابع

 مرحبا مذكراتي العزيزةَ الآن الساعة التاسعة مساءً، حانَ وقتُ النومِ، ولكن قبل هذا سأخبرك كيف كان يومي. 

اليومُ كانَ روتينياً في حياةِ طائرٍ عاديٍ مثلي، ولكنْه كانَ مثقلاً بالهمومِ والأفكارِ الجديدةِ علي، فمعَ انتهاء شهرِ أيلول، واقتراب فصلِ الشتاءِ وموسمِ البردِ المحببِ لدينا، هناك ما كانَ يشغلُ بال أغلبِ كبارِ العائلةِ، هلْ حقا سنستطيعُ النجاةَ هذا الموسمِ أيضاً؟ هلْ سنجدُ مأوى لنا أمْ سنبقى مشردين في بيوتِ البشرِ كما نحنُ الآنَ؟ لا شيءَ اكتبهُ حقا في مذكراتِ اليومِ، فالحِملُ ثقيلٌ على عصفور صغير بعمري.

 اليومُ السادس 


مرحبا مذكراتي العزيزةَ، اليومُ كانَ مرهِقاً جداً فقدْ إتخذنا قراراً جماعياً بالبقاءِ في البناء المهجور ذاته، أخبرنا جديٌ أنهُ علينا الوثوقُ في محبةِ البشرِ وإنسانيتهم ، وأنهمْ لنْ يقتلوا أحدا منا هذا الموسمِ. 

وضعنا خطة كبيرة لجمعِ الطعامِ ، وسننطلقُ غداً باحثينَ عنْ بقايا الخبزِ على أسطحِ البيوتِ، هذهِ هيَ خطتنا الكبيرةُ. وهنا عندَ انتهاءِ اجتماعِ العائلةِ وذهابهم بقيت مع أبي للتحدث حيث أوضحَ لي أنها ليستْ بالمهمةِ السهلةِ أبداً وأنهُ منْ الممكنِ أنَ لا أستطيعُ إيجادَ أيِ طعامٍ للعائلةِ، لأنَ البشرَ لمْ يعودوا يتخلوا عنْ فتاتِ خبزهمْ، ولا عنْ أشجارهمْ حتى، لقدْ أدخلوهمْ جميعاً إلى داخلِ بيوتهمْ الصغيرةِ. 

  سأخبركُ يا مذكراتي ماذا سأفعلُ بعد قليلٍ، سوفَ أغلقَ عيني وأصلي صلاةً صغيرةً لأجدَ ما يكفي لإطعامِ أخي الصغيرِ أسبوعاً على الأقلِ.


اليوم الخامسِ عشرَ

 مرحبا، أعلمَ أنك حزينةٌ يا مذكراتي، وأنك تحبي لوْ أكتبُ بك كلُ يومٍ، أوْ هذا ما أتمناه على الأقلِ.

لكنَ الأحداثَ الأخيرةَ كانتْ مرعبةً بحق، فقدْ اختطفتْ عائلة منْ العصافيرِ القريبةِ منا. كانتْ العائلةُ مستقرةً على صندوقٍ حديديٍ مثبتٍ على البناءِ الذي يعيشونَ بهِ البشرُ، أمٌ وأبٌ ومجموعة من البيوض الصغيرة الحية لقدْ كانوا يحلمونَ بعيشِ حياةٍ رغيدة على الرغمِ منْ تحذيرِ الجميعِ لهمْ، عملوا بجهدٍ وبنوا عشاً صغيراً لأطفالهمْ منْ أجلِ أنْ يكبروا في بيتٍ حقيقيِ، لكنَ حصلَ ما لمْ يتوقعوهُ أبدا.

 قامَ رجلٌ بإزالةِ العشِ، واختطاف العصفورينِ معَ أبنائهمْ، ووضعهمْ في قفصِ حديدٍ صغيرٍ. أعلمُ أنها تبدو كقصةٍ خياليةٍ لطيرٍ حرٍ مثلي، ولكنَ هذا حقاً ما حصلَ، لقدْ رأيتهمْ بعيني، كانَت الأمَ تبكي حزناً على أطفالها وهيَ تخبئهمْ تحت أجنحتها. 

اليومُ العشرونَ

مرحبا مذكراتي العزيزةَ، اليومُ هوَ اليوم الأخير الذي سأكتبُ بهِ يومياتي، لقدْ اعتقدتْ أنني سوفَ أكتبُ ذكريات جميلة، تفاصيل يومي التي سأفرحُ بقراءتها بعدَ وقتٍ، لكنْ لمْ يعدْ يوجدُ وقتٌ. 

منذُ بدءِ عملياتِ خطفِ وقتلِ العصافيرِ، توقفنا عنْ التغريدِ نهائياً، حتى أنني نسيتُ كيفَ كانَ صوتي. 

بعيون مغرقة بالدموعِ أخبركَ أنني لمْ أعدْ أرى عائلتي، نعمْ عائلتي، فقدْ أرسلتنا أمي للعيشِ منفصلينِ عنْ بعضنا، منْ أجلِ أنْ ينجوَ أحدنا على الأقلِ، والوداعُ لمْ يكنْ سهلاً على الإطلاق.

 ولكنَ تخيل أنْ يُشوى ويُأكلُ أحدنا منْ قِبلُ البشرِ لمْ تكنْ فكرة سهلة الوقوعِ على آذاننا، أوْ أنْ يصابَ بطلقٍ ناريٍ وهوَ يطيرُ منْ شجرةٍ لأخرى. 

فهذهِ الأفكارُ ليستْ أفكاراً بعيدةً عنْ الواقعِ ، فحقا يتمّ استهدافنا وجلبنا على قيدِ الحياةِ،  و أصبح تناولنا على وجبةِ الغداءِ شيء طبيعي، وبما أنني لا أملكُ أيُ وسيلةٍ لجعلِ الأمورِ أفضلَ، فأنا أتعهدُ على نفسي بدئاً منْ الآنِ أنَ لا أغرد حتى أرى عائلتي مجدداً، وأنَ لا أطيرُ حتى أراهمْ سعيدينِ، وأنَ لا أكتبُ مذكراتي حتى تعودَ الحياةُ طبيعيةً من جديد. 

كتابة: ساندرا غميض

تدقيق: داليه عبد اللطيف

إقرأ أكثر مع SCP

(هذه التدوينة من مخرجات مشروع "دوّن للأرض" بالتعاون مع مشروع تمكين)