المؤلف: Thaer Muhammad

النّفايات الإلكترونيّة في عصر الاستهلاك المتوحش
النّفايات الإلكترونيّة في عصر الاستهلاك المتوحش

النّاس وهي تمشي الساعة الثّالثة صباحاً باتجاه متجر شركة آبل حاملين هواتفهم التي أصدرتها ذات الشركة (آبل) السنة الفائتة، والتّزاحم أيام الجمعة السوداء في شركة وولمارت (Walmart Black Friday )، كلُّ هذا التّهافت يعيدُ إلى أذهاننا مشاهدَ أفلام الموتى السائرين (الزومبي) ونهاية العالم، رغبةٌ جامحةٌ تقودُ البشريّةَ للاستهلاكِ، مدفوعةً برغباتٍ غيرِ أصيلةٍ، تُحرّضُها الماكيناتُ الإعلاميّة الذكيّة للمنتجين، دون أيّ ضوابط تُحدّدُ أثرَ هذا النّمطِ الاستهلاكيّ الجائرِ على مستقبلِ كوكبنا.

من يمكنهُ الوقوفُ في وجهِ مراهق يرغبُ في شراءِ نسخةٍ حديثةٍ من هاتفهِ المحمول؟ 

تُعرّف الأممُ المتحدةُ النّفايات الإلكترونيّة على أنّها مصطلحٌ يستخدمُ لتغطيةِ جميعِ أصنافِ المعدّاتِ الكهربائيّةِ والإلكترونيّةِ وأجزائها التي تخلّصَ منها مالِكُها كنفاياتٍ، دون نيّة إعادةِ استخدامِهَا.

في ظلّ هوسِ الاستهلاكِ المتنامي في المجتمعاتِ، يزداد حجمُ صناعةِ الإلكترونيّاتِ بشكلٍ كبيرٍ كلّ عامٍ، مولداً فائضاً يجبُ السيطرة عليه، وعنهُ ينتجُ زيادةً لا معقولةً في الأجهزةِ القديمةِ والنّفايات الإلكترونيّة، تحتاجُ إلى حلولٍ جدّيةٍ وعاجلةٍ، لتداركِ تحوّل الأرض إلى مكبّ للنّفايات.

《 بزوغ الأزمة الدولية – اتفاقية بازل

يعودُ تاريخ بدء التشريعات الدولية الناظمة لضبط النّفايات الإلكترونيّة إلى أواخر الثمانينيات، وذلك بعد عدّة حوادث دوليّة، كان أكثرها جسامةً و خطورة على البيئة، حادثة السفينة الليبيرية (Khian Sea) عام 1986، حين تم استئجارها لنقل 14,000 طن من رماد النّفايات الإلكترونيّة المحروقة، من ولاية فيلادلفيا في الولايات المتحدة الأميركية إلى ولاية نيوجيرسي، التي رفضت استقبال هذا الرماد الذي كان يصلها منذ 16 عاماً، لاكتشافها السمّية العالية التي يحملها الرماد، والذي كان يحتوي على الزرنيخ والكادميوم والزئبق والديوكسين، وتزامن مع رفض 6 ولايات أخرى استقباله، فما كان من السفينة إلا أن اتجهت جنوباً نحو منطقة البحر الكاريبي، وألقت 4,000 طن من الرماد في البحر، ثم ألقت باقي الرماد في أماكن مختلفة من جنوب شرق آسيا، استمرت السفينة بعدها سنتين، متعمدةً الإبحار إلى البلدان الأقل مراعاة للشروط البيئية للتخلص من نفاياتها السّامة، حتى عقد اتفاقية بازل عام 1989، وقتها اجتمعت 33 دولة  في بازل – سويسرا، ليتم الاتفاق على تقييد الشحن الدولي للنفايات السامّة، خاصّة من الدول الغنية في العالم إلى الدول الفقيرة وتعتبر الولايات المتحدة هي الدولة العضو الوحيدة التي لم تصدّق على اتفاقية بازل.

《  التحذيرات الأممية، النتائج كارثية

عقدت منظمة الصحة العالميّة (WHO) عام 2013 ورشة عمل بما سمي إعلان جنيف، ضمت علماء دوليين وخبراء في السياسات وممثلين عن الأمم المتحدة لمناقشة تحديات تعرض الأطفال والسكان للمواد السامة الناتجة عن الإدارة غير السليمة للنفايات من الأجهزة الإلكترونية والمعدات الكهربائية، تضمن الإعلان الإشارة إلى عدة نقاط، أهمها التوصل إلى وجود ارتباط بين التعرّض للنّفايات الإلكترونيّة ومشاكل صحيّة مثل اختلال وظائف الغدّة الدرقية، انخفاض وظائف الرئة، انخفاض معدّل نمو الأطفال، تأثر الصّحة العقليّة، تلف الحمض النووي، السميّة الخلوية والجينيّة، إضافة للآثار المسرطنة.

وفي العام التالي عُقد مؤتمر ومعرض وطني للنفايات الإلكترونية (2014) في العاصمة الكينيا، نيروبي، يهدف إلى تحديد حلول مشكلة المخلفات الإلكترونيّة المتصاعدة في كينيا، واستعرض المؤتمر دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة للبيئة على 300 تلميذ بالقرب من داندورا، جاء فيها أن حوالي 50 ٪ منهم يعانون من مشاكل في الجهاز التنفسي، و 30 ٪ لديهم تشوّهات في الدم تشير إلى التسمّم بالمعادن الثقيلة، فيما تقدر منظّمة الصّحة العالميّة وفيات الأطفال دون سن الخامسة متأثرين بالأمراض المرتبطة بالبيئة في جميع أنحاء العالم بـ 4.7 مليون في السنة.

عادت منظّمة الصّحة العالميّة للتحذير عام 2021، مشيرةً إلى وصول وزن النفايات الالكترونيّة عالمياً إلى 53.6 مليون طن متري عام 2019، وصل منها إلى مراكز التدوير 17.4 % فقط، وتم التخلص من الباقي بشكل غير قانوني عبر إرساله إلى بلدان منخفضة أو متوسطة الدخل، حيث يتم تدويرها من قبل عمالة غير رسمية، تضم أطفال ونساء حوامل، مؤكدةً أن تعرض الأطفال للمواد الكيميائية السّامة يؤثر بشدة على صحتهم، بسبب صغر حجمهم وأعضائهم، التي تمتصّ نسبة أكبر من الملوثات، وتكون أقل قدرة على استقلابها والتخلص منها، كما يؤثر الزئبق والرصاص على قدراتهم الفكريّة، أما بالنسبة للأم الحامل، يمكن أن يؤثر التعرض للنّفايات الإلكترونيّة السّامة على صحة الجنين ونموه لبقية حياته.

أشار تقرير بعنوان “السيناريوهات المستقبلية للنفايات الإلكترونية” إلى أن حجم نمو النّفايات الإلكترونيّة على مستوى العالم سيصل إلى 75 مليون طن بحلول عام 2030، وفي حال عدم تدارك هذا الارتفاع المخيف سيصل إلى 111 مليون طن بحلول عام 2050.

《 المخاطر البيئية 》


التخلّص غير السليم من النّفايات الإلكترونّية عبر إلقائها في مدافن النفايات، يشكل تهديدات خطيرة على النّظم البيئيّة، عبر إطلاقها لمواد كيميائيّة سامّة، تؤثر على هواء الأرض والتربة والماء وصحة الإنسان في النهاية.

يحدث تلوّث الهواء أثناء التخلص من النّفايات الإلكترونيّة عبر تذويب أو حرق الأجهزة، لاستخلاص المعادن الثمينة مثل النحاس، ويؤثر الهواء الملوّث بالأكاسيد على بعض أنواع الحيوانات أكثر من غيرها، ويؤثر على التنوع البيولوجي، كما يؤثر على جودة المياه والتربة وأنواع النباتات، ذكر موقع The Roundup  المتخصّص في المعيشة المستدامة والمنتجات الصديقة للبيئة، في أحدث إحصاءاته أنه في عام 2019، أطلقت الثلاجات ووحدات تكييف الهواء المهملة غازات دفيئة تكافئ ثاني أوكسيد الكربون، تمثل حوالي 0.3 ٪ من إجمالي الانبعاثات العالميّة المتعلقة بالطاقة.

عند التخلص من النّفايات الإلكترونيّة عبر دفنها، يحدث تسرب للمعادن الثقيلة إلى التربة، ومن ثم تلوّث المحاصيل التي يمكن زراعتها بالقرب أو في المنطقة في مستقبلاً، وعندما تتلوّث التربة بالمعادن الثقيلة، تصبح المحاصيل عُرضة لامتصاص هذه السمّوم، التي يمكن أن تسبب العديد من الأمراض تمنع الإنتاجيّة العالية للمحاصيل أو تمنع الزراعة أصلاً، ويمكن أن تبقى هذه الملوّثات في التربة لفترة طويلة من الزمن، ويمكن أن تكون ضارّة بالكائنات الحيّة الدقيقة في التربة والنباتات.

وتسرب المعادن الثقيلة من النّفايات الإلكترونيّة مثل الزئبق والليثيوم والرصاص والباريوم إلى التربة قد يصل إلى المياه الجوفيّة، حيثُ تشقّ طريقها في النهاية إلى البرك والجداول والأنهار والبحيرات، ما ينتج عنه تحمّض (ارتفاع الأس الهيدروجيني) وتسمّم في الماء، مما يضرّ الحيوانات والنباتات والمجتمعات حتى لو كانت على بعد أميال من موقع النّفايات الإلكترونيّة، ولتحمّض المياه آثار كارثيّة فهو قاتل للكائنات في البحار والمياه العذبة، مما يؤدي إلى تخريب لا رجعة فيه في النّظم الإيكولوجيّة.

《 البلدان النامية: سوق عالمي لتجارة الموت والتلوّث 》

تعتبر النّفايات الإلكترونيّة مصدر قلق كبير للصحّة البيئيّة في البلدان النّامية، حيث تحدث معظم عمليات إعادة تدوير النّفايات الإلكترونيّة غير الرسمية والبدائيّة، لكن هل هذه النّفايات الإلكترونيّة ناتجة عن استهلاكها المحليّ؟ أم مستوردة بهدف إعادة تدويرها؟

منذ دخول اتفاقية بازل حيز التنفيذ في عام 1992، يتم تجريم أي انتقال للنفايات بين البلدان بقصد التخلص منها نهائياً، ويسمح فقط بانتقالها بهدف إعادة التدوير أو إعادة الاستعمال، وهذا ما خلق سوق للنفايات الإلكترونية مصحوباً بأرباحٍ ماليّة معتبرة، لتتجه أنظار جميع شركات العالم الأول إلى الدول النامية، لسببين بديهيين، الأول رخص اليد العاملة، والثاني أن قوانين البلدان النّامية أكثر مرونة في فتح أسواقها للموت وللتخريب البيئيّ، وهكذا تُبعد البلدان المتقدمة شبح الالتزامات البيئيّة، التي تتعارض مع مصالح شركاتها.

 حظرت الصين استيراد النّفايات الإلكترونيّة منذ عام 2000، مع هذا تم استغلال ثغرة قانونّية جعلت من هونغ كونغ محطّة مؤقتة للنّفايات الإلكترونيّة، حيث تسمح الصين بالواردات المرخّصة في هونغ كونغ، وحسب تقرير للأمم المتحدة صدر عام 2013، فإن الصين تعتبر مستقراً نهائيّاً لنحو 70% من النّفايات الإلكترونيّة الناتجة عالمياً، وأصبحت أفريقيا حاويةً تلقي فيها أوروبا نفاياتها الإلكترونيّة، وتحولت غانا إلى أكبر مكبّ للنفايات الإلكترونية في العالم، حيث يُعدّ حي أغبوغبلوشي (Agbogbloshie) مثالاً صارخاً على كابوس النّفايات الإلكترونيّة.

《 كيف يتفاعل العالم مع مشكلة تتعاظم؟  》

 في هذا العالم أكثر من 16 مليار هاتف محمول، ويقدر المنتدى الدولي لنفايات المعدات الكهربائية والإلكترونية (WEEE) هذه السنة أن 5.3 مليار هاتف ستتحول إلى نفايات إلكترونيّة، هذا النمو الهائل في النفايات الإلكترونية وأثرها المدمّر على البيئة والبشر، ومع مشقة التخلص منها، وضع الدول والشركات المنتجة للأجهزة الإلكترونية في موقف لم يعد فيه الهروب من الواقع وتجاهله أمراً ممكناً، حيث لا يمكن للحكومات إلزام عمالقة التكنولوجية من تقليل إنتاجهم أو ضبطه، فاتجهت الأفكار نحو إعادة التدوير نظراً للقيمة الكبيرة الممكن استردادها من المواد التي تشكل النّفايات الإلكترونيّة، مثل النحاس والقصدير والحديد والألمنيوم والتيتانيوم والذهب والفضة، في هذا الصدد، تناقش المنظمات الدولية وأصحاب المصلحة الآخرون بشكل متزايد النّفايات الإلكترونيّة في سياق مفهوم “الاقتصاد الدائري” الذي يهدف إلى القضاء على الهدر والاستخدام المستدام للموارد، في عام 2019 صدر تقرير بعنوان ” رؤية دائرية جديدة للإلكترونيات ” جمع سبع كيانات من الأمم المتحدة إضافة إلى المنتدى الاقتصادي العالمي ومجلس الأعمال العالمي للتنمية المستدامة، طرح التقرير دعوة نحو التحول إلى إقتصاد دائري حيث لا تُهدر الموارد، ولكن يتم تقيّيمها وإعادة استخدامها بطرق تمكّن من خلق وظائف لائقة ومستدامة، نظراً لأن قيمة المخلفات الإلكترونية لا تقل عن 62.5 مليار دولار سنوياً، تعادل أكثر من ثلاثة أضعاف الناتج السنوي لمناجم الفضة، وهو ما يتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لكثير من الدول، فإن الفوائد الاقتصادية هائلة في التحول إلى نموذج اقتصادي دائري في قطاع الإلكترونيات، كما يدفع تبني الاقتصاد الدائري إلى خلق ملايين الوظائف في جميع أنحاء العالم.

《 هل نحن جزءٌ من الحل؟  》

في عالم تغزوه منتجات إلكترونية تقدمها لنا شركات متخصّصة في التلاعب برغباتنا، عليك التوقف لحظة والتفكير جيداً قبل شراء جهاز إلكتروني جديد، قاوم رغباتك التي تطلقها الشركات الدعائيّة وهي تحاول إقناعك أن مشاكلك يمكن حلّها بشراء جهاز جديد، واسأل عن مدى حاجتك الحقيقية لاقتنائه، ولتعمل على إصلاح أجهزتك القديمة بدلاً من رميها، وفي حال وصول جهاز إلى نهاية عمره الافتراضي، عليك اختيار الطريقة الأنسب للتخلص منه، ومارس دورك في جعل العالم الذي نعيش فيه مكاناً آمناً من خلال الاستهلاك بطريقة مسؤولة، ونشر الوعي بالمخاطر المرتبطة بالإلكترونيات.

■ المراجع :

إقرأ أكثر مع SCP
تاريخ النشر 10/04/2023