الأسماك السورية ضحيّة فرانكشتاين المناخ
قبل حوالي 200 عام من الآن، خلق البشر دون وعيّ وادراك منهم قاتلاً كَبر في الخفاء يدعى “الاحتباس الحراري“، يستهدف البحار كما يستهدف اليابسة، وتعتبر الثروة السمكيّة في سورية واحدة من ضحاياه، فقد ولّد موجات حرّ بحريّة نتج عنها ارتفاع في درجة حرارة مياه البحار، وخلق أوساط مائيّة غير ملاءمة للأنواع المحليّة، تُسهل اختفاءها وتشجع على قدوم الأنواع المداريّة والاستوائيّة المُحبّة للحرارة العالية، وزيادة درجة حرارة مياه البحار إلى معدلات غير مسبوقة، وضعت الأسماك أمام خيار الهجرة إلى مناطق أكثر برودة خارج موائلها الطبيعيّة، كون وتيرة التغيرات المناخيّة وارتفاع حرارة المياه أسرع بكثير من مقدرة الأسماك على التأقلم مع هذه الظروف المتغيرة، حتى بات من المرجح أن يكون السيناريو في المياه البحريّة السورية هو الانقراض المحلي لعدد من الأنواع السمكيّة، كما هو حال القشريات التقليديّة التي اعتاد عليها الإنسان في غذائه، نتيجة عدم تحملها للحرارة الجديدة أو نتيجة لقدوم أنواع أخرى دخيلة منافسة لها (الأنواع الغازية)، لأنها تغير من تركيبة المجتمع الحيويّ المحليّ بشكلٍ سريع وتحوله إلى مجتمع حيويّ جديد ومعقد.
الأمن الغذائيّ في قبضة التغير المناخي
طالما أن تداعيات التغيّر المناخي تطال الإنتاجيّة الزراعيّة حول العالم، والمناخ العالمي هو نظام متصل لذا فإن آثار التغيّرات المناخيّة محسوسة في كل مكان، أهمّ هذه التغيرات يتمثل في ارتفاع منسوب البحر، فقد يرتفع مستوى سطح البحر حوالي (20) سم في المائة عام القادمة، نتيجة ذوبان الثلوج الذي قد يطال الأنهار الجليديّة حول العالم، وأنّ تغير المناخ سيؤدي إلى زيادة إنتاج أمطار غزيرة، وازدياد في قوة الأعاصير، وعلى الرغم من هطول الأمطار الغزيرة في أماكن معينة، إلّا أن الجفاف سيصبح أكثر شدّة في بعض الأماكن، وهذا كله سيؤدي إلى التأثير على الأمن الغذائي في سوريا سلبياً، مع تراجع إنتاجيّة المحاصيل بسبب نموها في ظروف غير ملائمة، مقارنةً بظروف البيئة المثاليّة التي كانت تنمو فيها قبل التغير المناخي، وقبل ارتفاع الحرارة والجفاف والأعاصير، وأيضاً العديد من أنواع الأسماك ستهاجر لمسافات طويلة، بغية البقاء في مياه مناسبة حراريّاً لها، مسببةً تغيير في التنوع الحيويّ في الأماكن الجديدة، وبالتالي قلة الناتج الزراعي النباتيّ والحيوانيّ بكافة أنواعه ومحاصيله.
اضطراب في ديموغرافيا أسماك المتوسط
إن لهجرة الحيوانات دوراً مؤثراً على التوازن البيئيّ، والهجرة الليسبسيانيّة لا يَخفى أثرها على التنوع السمكيّ في سورية، ولهذه الهجرة حدث تاريخي نشأت على إثره، هو فتح قناة السويس في عام 1869 م، والتي أدت بدورها إلى إنشاء ممرٍّ ربطَ منطقتين متمايزتين ومختلفتين من الناحيتين الجغرافيّة والحيويّة، هما البحر المتوسط المعتدل والبحر الأحمر الاستوائيّ، وقد كان لهذا الربط نتيجة حيويّة هامة، تمثلت في هجرة العديد من الأنواع التي سكنت البحر الأحمر واستقرارها في البحر المتوسط ومنها الأسماك، وسميت فيما بعد بالهجرة الليسبسيانيّة وذلك في عام 1969 م، فقد أعطى الباحث “بور” مصطلح المهاجر الليسبسيانيّ لكل نوع من أنواع البحر الأحمر استطاع الانتقال عبر قناة السويس والبقاء في الحوض الشرقي للبحر المتوسط.
وهكذا بدأت ظاهرة الهجرة الليسبسيانيّة عبر انتقال بعض الحيوانات القاعيّة التي تعطي يرقات تتغذى على البلانكتون والأحياء الشاطئيّة العائمة، إضافةً لبعض أنواع الطحالب الكبيرة والعوالق النباتيّة والحيوانيّة، حيث تم تسجيل أول نوع مهاجر ليسبسياني بعد 26 عاماً من إنشاء قناة السويس أي في عام 1895 م، وكانت عبارة عن نوع من الرخويّات من صفيحيّات الغلاصم، وفي عام 1902 م، تمت ملاحظة وصول أول نوع سمكي ليسبسيانيّ إلى البحر المتوسط.
وهناك ازدياد في عدد الأنواع المهاجرة باستمرار، حيث تقدر النسبة المئويّة للأسماك من المصيد الكلي في المياه البحريّة في محافظة طرطوس 15%، كما بلغ عدد الأنواع السمكيّة الليسبسيانيّة المسجلة في المياه البحريّة السورية، 74 نوعاً من أصل 120 نوعاً مسجلاً في البحر المتوسط، منها 19 نوعاً اقتصاديّاً و8 أنواع سامّة منها أسماك البالون.
إنّ استمرار الهجرة الليسبسيانيّة سببت تغييراً في التنوع البيولوجيّ في البحر المتوسط، والتنوع السمكيّ في المياه البحريّة السورية بشكلٍ خاص، مما يؤثر بشكل كبير على النظام البيئي فيها ومصايد الأسماك التجاريّة.
خيارات المواجهة متاحة، هل نفعلها؟
نحن نسابق كل يوم فرص نجاتنا، نجترح الحلول وننتظر أن تتمثل بأفعال وطال الانتظار، يمكننا اليوم أن نبدأ بثلاث أفكار يمكنها الحد من تأثير التغير المناخي على الثروة السمكيّة في سورية تتمثل ب :
- إقامة ندوات وأيام حقلية خاصة بالأنواع السمكيّة الليسبسيانيّة السّامة، تهدف إلى إعلام الصيّادين بشكل مستمر عن مدى سميّة هذه الأنواع، كونها تشكل نسبة مئوية لا بأس بها تقدر ب 4.47 %، وذلك في منطقة الصيد بطرطوس من إجمالي الصيديّات السمكيّة الليسبسيانيّة حفاظاً على صحتهم.
- إجراء الدراسات البيولوجيّة للأنواع السمكيّة الليسبسيانيّة، وذلك لمعرفة مدى تأثير الأنواع المهاجرة على الأنواع السمكيّة المحليّة، وبالتالي على المخزون السمكيّ، والاستناد إلى تلك النتائج في اتخاذ القرارات الناظمة لإدارة الثروة السمكيّة، من أجل الاستغلال المستدام للمخزونات السمكيّة وتحقيق الإنتاج الأعظمي لهذه الثروة.
- وضع خطة إدارة مستمرة وموجّهة لمراقبة ورصد الأنواع السمكيّة الليسبسيانيّة، وقياس مدى وفرتها للاستفادة من الأنواع الاقتصاديّة منها، واستغلالها بالشكل الأمثل، وإيجاد برامج وخطط لمكافحة الأنواع السمكيّة السامّة والمؤذية منها.
خاتمة
مما لا شك فيه أن الكائنات البحرية لن تهرب من الحرارة لتعيش في فيء أشجار اليابسة، لذا يعتبر استقرار النظم الإيكولوجية أمراً بالغ الأهمية في البيئات الساحلية، لأنها تدعم التنوع البيولوجي ومصايد الأسماك، والتقليل من آثار تغير المناخ عبر دعم النظم البيئية البحريّة عليه أن يكون أولوية للباحثين والحكومات لما لها من تأثير كبير على حياة الملايين من الناس.
مقابلة مع الدكتور علاء منذر الشيخ أحمد
دكتور في مجال الأسماك اختصاص بيولوجيا ومصايد بحار، باحث في مجال الثروة السمكية في المياه البحرية السورية، مدير فرع المنطقة الساحليّة في الهيئة العامة للثروة السمكية
اعداد: ميمونة معروف
تحرير وتدقيق: ثائر محمد